الأستاذ ناجي وهب الفرج
ترتكزُ الحياةُ و تدومُ وتنهضُ على تبادلِ المنافعِ بينَ كلِ منَ يجمعهم العيش مع بعضهم البعض ، فهم يؤثرون و يتأثرون فيما بينهم وبمن حولهم . و من مستلزماتِ استمرارية استقرار الأمور لديهم أنْ يمتلكون علاماتٍ ويسيرون على نظمٍ ينبغي مراعاتها في طرقِ تعاملاتهم و تعايشهم . و أيضًا من دواعي ديمومة و استمرار هذا التكافل البناء هو أن تكونَ مداولاتهم و نقاشاتهم التي تدورُ بينهم و التي تفضي و تحتمُ عليهم في أنه ليسَ هنالكَ رأي صائب بالمطلق و لا يمكنْ لشخصٍ ما اعتيادي مثلهم ومثلنا أن يمتلكَ الحقيقةَ كاملةً و محال أن يكون لديهِ إحاطة كاملة بجميعِ ما يحدث ، فما يغيبُ عنهُ يتذكرهُ الآخرون و ما يسرحُ ويغفل عنهُ الآخرون يتذكرهُ هو بالمقابل و بهذه الكيفية و المنوال تكتملُ الفكرةُ و تتضحُ الصورةُ لديهم وعلى هذا جرت عليه سيرة العقلاء.
من الأهمية بمكان وجود محدداتٌ في إدارةِ الرؤى و النقاشاتِ خلال تناولها بين هذهِ الأطرافِ المتكافلةِ التي تعيشُ مع بعضها ، تستندُ على فكرة مساحاتِ الدوائرِ التي يفسحُ لها الشارعُ المقدسُ أن تتحركَ ضمن مداهُ و ما تتيحُ لها الأنظمةُ و القوانينُ التي تتماشى مع الشرعِ بالضرورة من مجالٍ يتيح لها حرية في الحركةِ و الانطلاقِ ، وإذا استعنا أيضًا بالمنطق الرياضي لتقريب الفكرة و تبسيطها للقارئ الكريم ؛ فإنهُ في علم الهندسة يُسمح ويجوز أن تتقاطعَ الدوائرُ بحيث لا تضيعُ الحقوقُ و لا تلتبس الواجباتُ و حتى إن كَانَ هنالكَ تقاطع ؛ فيكون هذا التداخل و التقاطع مرهونًا باستفادةِ هذهِ الاطراف كل منهم بالآخر ، و المحافظة من جانبٍ آخر على ما تمتلكهُ هذه الدوائرُ من عناصرٍ على ملاكها فيؤدي هذا التقاطعُ إلى ما يُسمى بالتشارك الذي يحقق الفائدةَ المرجوةَ التي تخدمُ جميعَ الاطرافِ و تصبحُ هذهِ المشاركات و تصبُ في نهايةِ الأمرِ في منفعةِ وخدمةِ كافة الدوائر المتقاطعة فتصبح علاقتهم علاقة ورابطة تساهمية أو تشاركية ، وهذا ما يحدث من جانب آخر على مستوى الدقائق الصغيرة كذرات المواد في علم كعلم كيمياء المادة ، فعند اتحاد الذرات والتي ترمي للوصول إلى مرحلة الاستقرار وتحقيق المرجو منها لتكوين منتج يخدم الجميع و يتحقق الغرض المراد الوصول إليه بدون خسارة لكل طرف ، ونحقق مبدأ مهم غاية في الأهمية بيننا وهو أنه تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين.
و كما ورد عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
هكذا يتم تبادل المنافعُ على مستوى كائنات متناهية في الصغر ، فما بالك بالإنسان الذي وهبهُ الباري جل و علا من الإمكاناتِ و الذي كرمهُ و أهلهُ و رفعهُ حين قالَ عنهُ عز من قائل : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) التين 4
وقال جل وعلا في موضع آخر في كتابهِ المجيد : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )الاسراء 70.
ونأتي في هذا المقام ومن زاوية أخرى ؛ لنعالج حدية الرأي عند هذه الاطراف المتعايشة أو المتكافلة ، فهذا المعنى يظهر عندهم في أقوالهم و أعمالهم فلا يقبلون في حل الأمور بينهم منطقًا وسطًا في حل الأمور والتي لا ينبغي التشدد فيها و يمكن علاجها بالتدرج لنصل لمبتغانا من الحلِ الذي يعطي الجميعَ الحلَ المرضي و المطلوب و المعقول في آن معًا.
فعندما نجد زلةً أو خطأً ما عند شخصٍ قريب أو بعيد ، و هذا الخطأ لا يستلزم جرهُ لا قدر الله إلى معصيةِ الله، بل هو فعل أو قول لا يتعدى كونهُ نتيجةَ جهلٍ أو نسيان فيمكن معالجتهُ ضمن خطواتٍ و مراحلٍ حتى و إن كانتْ تتسارع ببطءٍ و تحقق نسبًا من النجاحِ والانجازات متدنية بين فترة و أخرى لتقويم الاعوجاج ، فهذا مقبول و حالة صحية ؛ فالعلاج لا يتمْ دفعة واحدة بل يحتاج لهذا التدرج ، فمثلهُ كمثل الدواء يؤخذ بجرعات و في أوقاتٍ محددة حتى يؤتي أُكلهُ المراد منه .
هكذا نربي أولادنا و أنفسنا على التدرجِ في الحلِ، وما يناسب قولهُ في وقتِ ومكان لا يناسب و يتلائم في وقت و مكان آخر .
لستُ أنسى كلماتٍ و توجيهاتٍ بعضَ مَنْ نهلنا منهم العلم أثناء دراستنا الجامعية منذ ما يقرب من الثلاثين عامًا ، بإنّ الأبناء و الطلاب مثلهم كمثلِ الزرعِ ساقهُ و قوامهُ ضعيف ولين ، كلما جاءتْ ريحٌ مالَ حيث مالتْ وأرادتْ ، يتطلب أن نضع لهُ المساند و الدعامات لكي لا يميل و نعدل قوامهُ من حينٍ لآخر كي ينمو مستقيمًا كلما احتاج لذلكَ ، و إذا تركنا وأهملنا ميلهُ دون تدعيم و مساندة و كبر على ما هو عليهِ و حاولنا فيما بعد تعديلهِ فإنهُ لن يستجيبَ و إذا أصرينا و عدلناه سُيكسر و يموت و تكون خسارتنا مضاعفة و فادحة . فكذلك الحال هذا ينطبق على مراعاة نمو الإنسان في مراحلِ حياتهِ المختلفةِ فهو يحتاجُ للتوجيهِ و الارشادِ و المداراةِ و التقويمِ و الاستيعابِ حتى يستطيعَ النهوض و الاستمرار و نسعى أن نضع يديهِ على الجادةِ في بدايتهِ ليسلكَ و ينطلقَ في الخطِ المستقيمِ المراد و المخطط لهُ .
دعونا نُثبت عدةَ مطالب ٍفي هذا الشأن :
- الإنسانُ بمن معهُ يتكامل ليكون منتجًا و مثمرًا .
- ينطلق مع مَنْ معهُ بأرضية مشتركة و يتقاطع و يتشارك معهم في المصالح و الاهداف .
- توفير الداعم و المساند و الموجه خلال مراحل نمو هذا الناشىء .
- وضع الأمور في نصابها لتبنى و تنمو و تستمر على الجادة .
- نحتاج لتعدد النظر في زاويا مختلفة للمشكلة قيد الحل لتشخيصها حتى يمكن تغطية وتقديم أكبر قدر ممكن من الحل لها .
- لابد من التدرج في تطبيق الحلول بجرعات محددة و متوازنة على فترات زمنية حتى نصل إلى العلاج الكامل.
هذا و نسأل الله جل وعلا لنا و لكم الهداية و السداد .