غبقة عوامية… حين يختلط عبق التاريخ بنكهة اللقاء بعد خمسين عامًا

في ليالي رمضان، حين تعانق الأرواح سموّها، وتتوهج المجالس بنور المحبة والألفة، كان لديوانية السدرة موعدٌ مع ليلة استثنائية، ليلة لم تكن مجرد لقاء عابر، بل محطة من محطات الذاكرة، حيث اجتمع الماضي بالحاضر، والتاريخ بالأدب، في حضرة نخبة من أبناء العوامية، الذين حملوا معهم عبق الذكريات ورونق الفكر والثقافة.

دعوة بكرم السيل ورائحة الهيل .
في دار الدكتور تقي نصر الفرج، ذلك القلب الذي يفتح أبوابه قبل أن يفتح داره، التأم شمل نخبة من أبناء العوامية في أمسية رمضانية عنوانها “الغبقة”، تلك المفردة التي وإن تسللت حديثًا إلى قاموس عاداتنا، إلا أنها في جوهرها امتدادٌ لما عرفناه من جلسات عامرة بالألفة، حيث تمتد السهرة بين الإفطار والسحور على مائدة من الودّ قبل أن تكون مائدة طعام.
اللافت في هذا اللقاء أنه، وعلى غير المتوقع، لم تطغَ عليه أحاديث الطب والهندسة والعلوم، رغم أن مضيفنا الدكتور تقي وأخوته من طليعة العواميين الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية في هذه المجالات. بل جاء السمر حافلًا بالتاريخ والتراث والأدب، ليتحوّل المجلس إلى ندوة ثقافية ثريّة، تصدّرها حديث الدكتور سعود نصر الفرج، الطبيب الذي نعرفه جراحًا نابغًا في تخصصه، لكنه فاجأ الجميع بإبحاره العميق في تاريخ المنطقة والخليج، متحدثًا بلغة المؤرخ العارف، المحلل الدقيق، الذي يفكّك الأحداث ويعيد تركيبها، فيُشعرك وكأنك أمام أستاذ للتاريخ، لا طبيب أفنى عمره في غرف العمليات.

لقاء بعد خمسين عامًا… والمشيب لم يمحُ الذاكرة
أحد أكثر المشاهد الطريفة والمؤثرة التي شهدها المجلس كان لحظة لقاء امتد انتظاره لخمسين عامًا! فعندما وصلنا إلى دار أبي محمد، اتخذ الجميع أماكنهم، وبينما كان الصديق أنور السعيد يتأمل وجوه الحاضرين، وقعت عيناه على رجل بدا له مألوفًا، لكنه لم يتمكن من تحديد هويته. بادره أبو فاروق بعفويته المحببة قائلًا:
— “أنا ما عرفتك!”
فأتاه الرد من أحد الجالسين:
— “هذا الدكتور سعود نصر الفرج.”
وما إن سمع الاسم حتى قفز من مقعده وتعانقا بحرارة، لقاءٌ أتى بعد فراق نصف قرن، فرّقته الدراسة بين بريطانيا والهند ثم توزعت بهما سبل الحياة بين الرياض والجبيل، لكن العوامية أعادتهما في ليلة رمضانية استثنائية. وما كاد أنور يبدأ بسرد ذكرياتهما حتى قاطعه الدكتور سعود بلطف قائلاً:
— “أعذرني، أنا للحين ما عرفتك!”
فضحك الجميع، قبل أن يذكره باسمه، فتألقت في العيون لمعة الذكريات، وعادت الأيام وكأنها لم تمضِ، رغم أن الوجوه قد تغيّرت، واللحى قد شابها المشيب، إلا أن ذاكرة القلوب ظلّت حيّة لا تهرم.
مائدة عامرة… وكلمات بنكهة الشعر
وكما ازدانت الجلسة بأحاديث الذكريات، زادتها المائدة غنًى بأطباق التراث التي أعدها الدكتور تقي نصر الفرج بكرمٍ لا يُستغرب منه، فامتدت الوليمة العامرة بـ الهريسة والسمبوسة والمطبق والمنفورة، وصولًا إلى الأطباق الدسمة التي تحاكي كرم الضيافة العوامي الأصيل.
وبعد أن شُبعت البطون، حان دور القلوب لتُشبع بنغم الكلمات، فتزين المجلس بقصائد من نظم نوخذة ديوانية السدرة الأستاذ حبيب الأسود، ونثرت بين الحاضرين خواطر حملت عبق الذكرى وألق المشاعر.

امتنان لا تكفيه الكلمات
لم تكن هذه الغبقة مجرد وليمة رمضانية، بل كانت ليلة استثنائية صنعتها القلوب قبل أن تصنعها الأيدي، جمعت بين العلم والأدب، والتاريخ والإنسان، فجعلت من رمضان مناسبة لتجديد العهد مع الذاكرة.
وباسم ديوانية السدرة، نتوجه بأسمى آيات الشكر والعرفان لمضيفنا الكريم الدكتور تقي نصر الفرج، ولإخوته الكرام:
 • الدكتور سعود نصر الفرج، الذي أبحر بنا في تاريخ الخليج
 • المهندس زكي نصر الفرج، الذي أضفى حضورُه بُعدًا آخر لهذا اللقاء
 • الأستاذ تركي نصر الفرج
 • المهندس شاكر علي الفرج
كما نخص بالشكر كل من كان جزءًا من هذه الأمسية، كل من شارك بقلبه وكلماته وحضوره، فهذه ليالٍ لا تتكرر، وهذه لحظات تبقى حيّة في الوجدان، تُروى وتُعاد، وتظل بصمة خالدة في سجل الذكريات.
إلى لقاءٍ آخر، يجمعنا كما جمعنا رمضان… على المحبة والخير.

أعضاء ديوانية السدرة
غبقة عوامية… حين يختلط عبق التاريخ بنكهة اللقاء بعد خمسين عامًا
أخبار عامة