في بقعة نائية، حيث تنعدم أبسط مقومات الحياة، جمع القدر بين زهور وورود. لم تكن بينهما صداقة، بل مجرد زمالة فرضتها المهنة. كلتاهما جاءت من منطقة واحدة، لكن من قريتين مختلفتين، ووجدتا نفسيهما في مدرسة بعيدة، مجبرتين على مشاركة سكن ضيق بغرفة واحدة ومرافق متواضعة.
زهور كانت شعلة من النشاط، تحمل روحًا متقدة بالحياة، بينما ورود كانت متعالية، ترى نفسها فوق المهام الصغيرة، فوق تفاصيل الحياة التي كانت زهور تديرها بصبر ودون شكوى. كان بينهما توتر دائم، لكن زهور تحملت، واحتوت الخلافات حتى جاء الفرج، وتم نقلهما إلى قريتيهما، فافترقت طرقهما، ولم يبقَ بينهما شيء سوى أن زهور كانت تسأل عنها عبر زميلاتهن، كما لو أنها تأبى أن تقطع الخيط الأخير الذي يربطهما.
النداء البعيد.. واللقاء غير المتوقع
مرت السنوات، وتزوجت كلتاهما، لكن الحياة سارت بهما في دروب متباينة. ثم، ذات يوم، رن هاتف ورود، وحين أجابت، جاءها صوت زهور دافئًا كما كان دائمًا:
— “كيف حالكِ يا ورود؟ مر وقت طويل!”
تحدثت قليلًا، ثم جاءت الدعوة:
— “أريدك أن تحضري زفاف ابنتي البكر.”
جاء رد ورود بارداً، شاحبًا، محملاً بتلك النبرة المتعالية التي لم تغيرها الأيام:
— “ولماذا الإصرار؟ لم تحضري زفافي.”
— “بل حضرت، وقدمت لك باقة ورد وريحان، ولم تكلفي نفسك حتى الاحتفاظ بها.”
ساد صمت قصير، ثم واصلت زهور بحزم:
— “أود أن تكوني معي في هذا اليوم، كما كنتُ معك في يومك.”
شعرت ورود بفضول لم تستطع تجاهله. سألتها أين سيقام الحفل، متوقعة اسم قاعة ملكية أو فندق فاخر، فجاءها الجواب الذي لم تتوقعه:
— “في استراحة فلان، زوجي.”
انقبضت ملامح ورود وهي تستفسر بدهشة:
— “ومن يكون فلان؟”
— “السائق الذي كان يوصلنا إلى المدرسة في أيام الغربة.”
ضحكت ورود ساخرة:
— “ذاك الرجل البسيط ذو الملابس الرثة؟!”
— “هو ذاته.”
صمتت ورود، ثم قالت بتحدٍّ:
— “سأحضر، لأرى هذه النجاحات التي تتحدثين عنها.”
لحظة المواجهة.. وانقلاب الموازين
حين دخلت ورود القاعة يوم الزفاف، توقفت عند الباب، مأخوذة بالفخامة التي لم تتوقعها. كانت زهور في استقبالها، وجهها يشع بالترحاب والثقة، وكأن الزمن لم يمرّ إلا ليزيدها بريقًا.
سألتها ورود مباشرة، بصوت يخفي ارتباكًا لم تعترف به:
— “أخبريني، أين هي نجاحاتك المزعومة؟”
ابتسمت زهور وأشارت حولها:
— “هذا المكان، وهذه الفيلا المقابلة، وهذا البستان الذي يحيط بهما… كلها جزء من رحلتي. لكن النجاح الأكبر ليس في الطوب والحجر، بل في بناء الإنسان. هذه ابنتي العروس، ستصبح دكتورة خلال عامين، وأختها تدرس الهندسة وتم تكريمها مؤخرًا على إنجازاتها. أما زوجي، فهو شريك رحلتي، ونور حياتي.”
وقفت ورود صامتة، تحاول أن تجد ردًا، لكنها لم تجد. شيء ما بداخلها تهاوى، كأنها أدركت فجأة أنها لم تربح شيئًا مما ظنت أنه انتصار.
بصوت خافت، سألت زهور:
— “أخبريني عن الدين الذي تدينين لي به.”
ابتسمت زهور، وقالت بلطف:
— “سأخبرك حين تزورينني على مأدبة غداء في منزلي الأسبوع القادم.”
الزيارة التي غيرت كل شيء
في اليوم المحدد، دخلت ورود إلى منزل زهور، لتكتشف أنه ليس مجرد بيت، بل واحة من الجمال والدفء. جلسَتا في البستان، حيث كانت الأزهار تتمايل مع نسيم خفيف، كأنها تروي قصة نجاح لم تُكتب بالكلمات، بل بالصبر والعمل.
قبل أن تبدأ زهور الحديث، استأذنت للحظات واتصلت بزوجها، الذي لم يلبث أن وصل بسيارته الفان التي كان يقودها أيام الغربة.
حين نزل من السيارة، لم تستطع ورود تصديق ما تراه. الرجل الذي كانت تحتقره يومًا، بدا الآن أنيقًا، وسيمًا، يحمل في ملامحه ثقة الرجال الذين صنعوا أنفسهم. شعرت وكأنها تواجه مرآة، لكن الصورة فيها لم تكن صورتها، بل صورة امرأة أخرى، انتصرت حيث خسرت هي.
مرت لحظات صمت طويلة قبل أن تهمس ورود، بصوت لم يعد يحمل التعالي القديم:
— “كيف وصلتما إلى هنا؟ وكيف بقيتُ أنا في مكاني؟”
تنهدت زهور وقالت برقة:
— “لأنني كنت أنظر إلى الأمام، بينما كنتِ تنظرين إلى الآخرين.”
— “لكن، ما قصة الدين الذي تدينين لي به؟”
اقتربت زهور منها، وضعت يدها على يدها، وقالت بابتسامة دافئة:
— “أنا مدينة لكِ بسخريتكِ، بتقليلكِ من شأني، بكل الإهانات التي كنتِ توجهينها لي. لقد جعلتِني أرفض أن أبقى في الهامش، جعلتِني أبحث عن ذاتي، عن قوتي، عن ما يمكنني تحقيقه. كنتِ تضحكين على شعري الكثيف، فتعلمت كيف أجعله ميزة، لا عيبًا. كنتِ تسخرين من وزني، فعملتُ على نفسي حتى أصبحتُ كما ترين. كنتِ تحتقرين زوجي، فبنيتُ معه حياة جعلتنا اليوم نقف هنا، بهذه الصورة.”
شعرت ورود وكأن الأرض تميد بها، كأنها لم تفهم الحياة إلا في هذه اللحظة. أخيرًا، رأت الفرق بينها وبين زهور؛ الأولى عاشت تتبع خطوات غيرها، والأخرى رسمت دربها بيديها.
قبل أن ترحل، نظرت إلى زهور بعينين غارقتين بندم لم يعد ينفع، وقالت:
— “كنتِ دائمًا أقوى مما ظننت.”
ابتسمت زهور، وأجابت بحنو:
— “وما زال لديكِ وقت، إن امتلكتِ إرادة التغيير.”
وهكذا، أدركت ورود أن أعظم الديون ليست تلك التي تُدفع بالمال، بل تلك التي تُدفع بالنجاح.