للكاتب الأستاذ: عبدالله أبورشيد
رمضان ليس مجرد شهر يمرّ بنا، بل هو موسم تستيقظ فيه أرواحنا، وتنجلي غشاوة الأيام عن قلوبنا، فنعود إلى أنفسنا، إلى ذواتنا الأولى، إلى جذورنا العميقة حيث الدفء الأول، حيث كنا نكبر بين أيدٍ حانية، وننام على أصوات الدعوات الصادقة، ونستيقظ على رائحة الخبز الذي يُخبز بحبّ، والقلوب التي تهبنا عمرها دون أن تطلب منا شيئًا سوى أن نكون بخير.
لكن هذا الشهر الذي كان يجمعنا، بدأ مع الأيام يُعيد إلينا أسماء غائبة، وملامح لم تعد تُطلّ علينا عند الإفطار، وأصواتًا كنا نعتقد أنها خُلقَت لتبقى، فإذا بها تصير صدى بعيدًا يرنّ في ذاكرة الحنين. كنا نعيش رمضان بجوارهم، والآن نعيشه بحثًا عنهم، في كل تفصيلة كانوا جزءًا منها، في كل دعاء كنا نسمعه منهم، في كل لحظة كانوا يصنعونها لنا دون أن نشعر بقيمتها حتى غابت.
رحيل لا يكتمل.. حضور لا يغيب
يظن البعض أن الرحيل نهاية، لكنه ليس كذلك. إنهم لا يذهبون تمامًا، بل يختبئون في الزوايا، بين الذكريات، في أماكنهم المعتادة، في بقايا أصواتهم التي ترفض أن تُمحى. في ليالي رمضان، حين ننظر إلى موائدنا الفقيرة ممن كانوا يملؤونها، نشعر أن الفقد لا يعني الغياب المطلق، بل هو نوع من الحضور المختلف، حضور يجعلنا نشتاق دون أن نجد اليد التي نمسك بها، أو العين التي كانت تطمئن علينا بصمت.
كم من مرة استيقظنا في السحر، نبحث عن أصواتهم، فلا نجد إلا الصمت يملأ المكان؟ كم من مرة جلسنا إلى الإفطار، وشعرنا أن كل الطعام الذي أمامنا ينقصه شيء واحد… دفء تلك الأيدي التي كانت تمدّ لنا اللقمة قبل أن تمتد إلى أفواهها؟
لكنهم وإن غابوا عن أعيننا، لم يغبوا عن سجلات السماء، ولم يُغلق باب البرّ عنهم، فلا يزال بإمكاننا أن نهديهم من أعمال الخير ما يُنير قبورهم، ويخفّف عنهم وحشتهم، ويكون لهم نورًا يمتد من الأرض إلى السماء.
الصدقة… صلة لا يقطعها الموت
حين نُفطِر صائمًا باسم والدينا، فذلك يعني أن موائدهم لم تخلُ بعد، وأن أيديهم لا تزال تمتدّ بالعطاء رغم أنهم لم يعودوا هنا. وحين نضع صدقة في يد محتاج، فإنها لا تصل إليه فقط، بل تصل إليهم حيث هم، تُبهج أرواحهم كما كانوا يُبهجوننا في حياتهم. وحين نساهم في بناء منزل لعائلة متعسرة ، فإن أرجلهم لا تزال تدخل بيوت الله، وسجودهم لا يزال ممتدًا، وأصوات تكبيرهم لم تصمت بعد.
لقد رحلوا، لكننا قادرون على أن نجعل رحيلهم بدايةً جديدة، لا أن يكون مجرد انتهاء. إن الجمعيات الخيرية التي تجمع تبرعات إفطار الصائمين، وكفالة الأيتام، وبناء المساكن ، وكسوة العيد ، ليست مجرد مؤسسات، بل هي جسور بيننا وبينهم، بين الأرض والسماء، بين الحبّ الذي لم يمت والوفاء الذي لا يجب أن ينقطع.
كل لقمة تصل إلى فقير هي رسالة تصل إلى أرواحهم تقول: “لم ننساكم.”
كل دعوة من محتاج تُرفع إلى الله بفضلهم، هي نور يُضيء لهم ظلمة القبر.
كل برّ نقدّمه باسمهم، هو امتداد لحياتهم في قلوبنا، وفي صحائف حسناتهم.
فكيف لا نسعى، ونحن نعلم أن الله يقبل الصدقات، وأنها تصل إليهم، وأنها قد تكون سببًا في رفع درجتهم، ومغفرة زلّاتهم، ورحمة تحيط بهم كما أحاطونا حبًا في حياتهم؟
إن بقي لديك والدان… فأنت تملك كنزًا لا يقدَّر بثمن
وأما من بقي له والداه، أو أحدهما، فليغتنم ما بقي من الزمن. لا تجعلوا الأيام تمرّ وأنتم تؤجلون برّهم، لا تنشغلوا عن أصواتهم حتى يأتي يوم تبحثون فيه عنها فلا تجدونها.
أكرموهم، اسمعوا حديثهم وإن طال، قبّلوا أيديهم، دلّلوهم كما كانوا يدللونا صغارًا، فإن فقدهم سيجعلكم تدركون أن كل لحظة معهم كانت جنة لم تروها إلا بعد فوات الأوان.
رمضان… موسم الوفاء
رمضان ليس كما كان، لكنه لا يزال فرصة للحب، للعطاء، للوفاء. لا يزال بابًا مفتوحًا لنهدي أحبابنا الذين رحلوا نورًا في قبورهم، ولنملأ أيام من بقيوا بالحب والبرّ قبل أن يصبحوا هم أيضًا ذكرى وحنينًا موجعًا.
فلنجعل هذا الشهر موسمًا نجدد فيه عهد الحب، عهد البرّ، عهد الإحسان… لأن الحبّ الحقيقي لا ينتهي بالموت، بل يزداد عمقًا، ويجد طرقًا جديدة ليصل إلى من نحبّ، حتى وهم في دار أخرى.