رحيل منير الفرج: نورٌ أطفأه القدر وأشعلته القلوب بالذكرى"
المهندس علي بن الملا أحمد الشيخ أحمد
في أجواء مليئة بالحزن والأسى، وفي لحظات من تلك التي يتوقف فيها الزمن ليحمل بين طياته قصصًا لا تُنسى وذكريات لا تفنى، ودّعت بلدة العوامية الشاب منير الفرج، الذي رحل عن عالمنا على إثر حادث سيارة أليم أودى بحياته على الفور. كان منيرًا يبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا، في ريعان شبابه، يحمل بين جوانحه قلبًا ملؤه الإيمان وعقلاً مشبعًا بالحب للآخرين.
في ذاك اليوم الحزين، اجتمع الجمع الغفير من أهالي البلدة، بل ومن خارجها أيضًا، ليشيعوا جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير. كان المشهد مؤثرًا إلى حد يعجز فيه القلم عن وصفه، حيث تداخلت أصوات الباكين عليه من شيوخ وشباب وأطفال، وتبتلت الألسن بالدعاء له بالرحمة والمغفرة. كان الجميع يشعر بأنهم فقدوا شخصًا عزيزًا، ليس فقط لأنه كان فردًا منهم، بل لأنهم فقدوا نورًا كان يضيء دروبهم، ويشاركهم أوقاتهم السعيدة والحزينة.
منير الفرج لم يكن ذاك الشخص الثري، ولا كان من أصحاب النفوذ أو الجاه الاجتماعي. بل كان شابًا بسيطًا في ملبسه، متواضعًا في شكله وعبارته. رغم بساطته، إلا أنه كان كبيرًا في قلبه وروحه، يحمل في داخله حبًا عظيمًا للخير ولخدمة مجتمعه. لم تكن ثروته مالًا ولا جاهًا، بل كان حُبَّ الناس له وتقديرهم لسيرته و اخلاقه و أعماله.
كان منير رمزًا للعطاء في مجتمعه. دائمًا ما كان في مقدمة المشاركين في الأعمال التطوعية بحسب ما تتيح له إمكاناته. .كان مؤمنًا بأن الأعمال الصالحة لا تقتصر على المراسم الدينية الحسينية فحسب، بل تشمل كل فعل يسهم في نشر الخير والمحبة بين الناس. ولهذا كان حريصًا على المشاركة في إقامة المراسم الحسينية، حيث كان يرى فيها فرصة لإحياء ذكرى أهل البيت -عليهم السلام- ، ونشر قيمهم ومبادئهم في المجتمع.
وكانت آخر رسالة له بعد رحيله من عالم الدنيا موجهة إلى بلده العوامية، رسالة تفيض بالحكمة والصدق، وتحمل في طياتها معنى عميقًا لمن فهم جوهر الحياة وآمن بأن العمل الصالح هو السبيل إلى السعادة الحقيقية. كانت رسالته دعاءً صامتًا يعبر عن رغبته في القرب من الله ومنزلة الحسين، وكأنه يقول: "اللهم اجعلني وجيهًا بالحسين، اللهم اجعلني وجيهًا عبر التقرب إليك." قال في رسالته: "كل من يشارك بعمل الخير الاجتماعي والمتعلق بأهل البيت -عليهم السلام-فسوف يجازى جزاءً كثيرًا في الدنيا قبل الآخرة." كانت هذه الكلمات تجسيدًا لقناعته العميقة بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن الأثر الطيب الذي يتركه الإنسان في الدنيا هو الإرث الحقيقي الذي يبقى.
ومن هنا، لم يكن مشهد جنازته المكتظة بالمحبين والمشيعين سوى ترجمة حية لهذه الرسالة. الناس جاءوا من كل مكان، ليس فقط لتوديع منير، بل ليعبّروا عن امتنانهم لما قدّمه من خير وعطاء. كان وجودهم هناك دليلاً حيًا على أن ما يزرعه الإنسان من خير في حياته يعود عليه بالبركة في الدنيا، ويكسبه محبة الناس التي هي من أعظم النعم.
رحيل منير لم يكن مجرد فقدان لشخص، بل كان فقدانًا لقيمة إنسانية نبيلة، فقدانًا لقلب كان ينبض بالحب والخير للجميع. لكن في الوقت ذاته، كان رحيله تذكيرًا لنا جميعًا بأن الحياة قصيرة، وأن الفرصة للعمل الصالح قد تكون محدودة. لذلك علينا أن نغتنم كل لحظة لنشر الخير والمحبة بين الناس.
في ختام هذه السطور، لا يسعنا إلا أن نتذكر تلك الوجوه التي غمرها الحزن، وتلك العيون التي امتلأت بالدموع وهي تودع منير الفرج إلى مثواه الأخير. تلك الوجوه كانت تقول بصمتها أن منير لم يمت، بل حي في قلوبنا بأعماله الطيبة وبكل أثر تركه في حياتنا. إن حياته كانت رسالة، ورحيله كان درسًا بأن الإنسان لا يُقاس بعدد السنوات التي عاشها، بل بما قدّمه من خير، وبما تركه من أثر.
نسأل الله أن يتغمد منير الفرج بواسع رحمته، وأن يجعل مثواه الجنة، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان. ولنجعل من رحيله فرصة لنعيد النظر في حياتنا، ولنسأل أنفسنا: ماذا سنترك خلفنا؟ هل سنكون مثل منير، نزرع الخير في كل مكان، ونعمل بما أوصانا به أهل البيت -عليهم السلام -، لنكون من الذين يُجزون جزاءً كثيرًا في الدنيا قبل الآخرة؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، والسعي للإجابة عليه بكل إخلاص وصدق.