للكاتب الأستاذ: عبدالكريم سعيد آل نمر
الناس جميعًا يتطلعون إلى معاملة حسنة أينما ذهبوا، لكن حين تطأ أقدامهم المستشفى، يعلو سقف التوقعات أكثر. فكيف إذا كان الداخل طفلًا صغيرًا؟ عندها لا تكفي المعاملة الطيبة، بل يحتاج إلى دفءٍ وحنانٍ يخففان وطأة الخوف على قلبه الصغير.
هذا ما يحلم به كل طفل، غير أن صالح الصغير — الذي أصبح اليوم حاجًا وقورًا — فقصته، التي حدثت قبل خمسين عامًا، تحكي غير ذلك.
عاش تجربة مختلفة تمامًا بقيت عالقة في ذاكرته إلى اليوم.
دعونا نصمت قليلًا الآن ونُصغِ إلى صالح، وهو يفتح صندوق ذاكرته ليقصَّ علينا حكايته بنفسه:
دون مقدمات، ودون أي مراعاة لمشاعر طفل لم يتجاوز الثامنة، ودون التفات إلى وجهه الذي يحبس دموعه، وبنبرة باردة لا تعرف الرحمة، قال الطبيب:
«لازم تلبس النظارة… يعني لازم تلبس النظارة.»
رفع الطفل عينيه متردّدًا:
— «لكن يا دكتور…»
قاطعه الطبيب مباشرة:
— «ما فيش 'لكن' ولا كلام! تلبس النظارة يعني تلبسها… وبشكل دائم!»
رفع الطفل عينيه مرةً أخرى، والدموع تكاد تملؤها، وقال بلهجته الطفولية:
— «بس سؤال يا دكتور…
يا الله، سؤال واحد بس، وما فيش غيره.
يا دكتور، إلى متى سأبقى ألبس النظارة؟ قصدي… لما أوصل الثانوية أو الجامعة… هل ممكن أستغني عنها؟ بأي طريقة؟»
«لا… وألف لا!» قالها الطبيب بصوت بدا وكأنه في جدال مع حماته، لا أمام طفل صغير رقيق الإحساس لم يبلغ الحلم.
«لا يعني لا. يعني راح تلبس النظارة لبقية حياتك.»
بقي الطفل ساكنًا، يحدق بعينيه الواسعتين، يرتعش من الصدمة، ثم همس بصوت مرتجف:
— «لكن يا دكتور…»
«ما قلنا مافيش 'لكن'.
بس علشانك نعيد ونكرر: النظارة بتكون على وجهك إلى آخر يوم في حياتك. فهمت يعني إيه ده؟»
كيف لطفل لم يتجاوز الثامنة أن يفهم ذلك؟ أو حتى يرد على هكذا حديث؟
أخيرًا… شعر الطبيب برقة الطفل، فراح يشرح له بأسلوبه الغريب:
«يا ولدي، الإنسان يُولد قصيرًا… ويموت قصيرًا.
يولد طويلًا… ويموت طويلًا.
يولد أبيض… ويموت أبيض.
يولد أسود… ويموت أسود.»
«هل رأيت إنسانًا قصيرًا صار طويلًا قبل أن يموت؟
هل سمعت عن شخص أسود صار أبيض وهو في طريقه إلى القبر؟
هو كده بالضبط: اللي يلبس نظارة… يلبسها وهو صغير، ويبقى لابسها وهو عجوز، ويموت كمان وهو لابسها.»
رفع الطفل رأسه بهدوء وقال ببراءة:
— «شكرًا يا دكتور… شكرًا على هذا الشرح الجميل… وشكرًا على هذا الإحساس الإنساني الرائع… وشكرًا على هذه الإيجابية التي لا تُنسى… وشكرًا على استشرافك للمستقبل… وشكرًا على طريقتك المثلى في إيصال المعلومة إلى قلب طفل هو في عمر أصغر أبنائك.»
طبعًا، لم أقل ذلك في ذلك الوقت (قبل أكثر من خمسين سنة)؛ لأنني لم أكن أعرف تلك الكلمات بعد، فضلاً عن أني لم أكن أفهم معانيها.
كل ما أتذكره أنني همست فقط:
— «شكرًا، يا دكتور… شكرًا يا دكتور…»
وهل قلتها فعلًا؟ ربما نعم… وربما لا. وإن قلتها، فهل خرجت من قلبي كما يُقال؟ أم كانت مجرد لقلقةٍ في لساني؟ أم هي التربية التي نشأنا عليها — أن نشكر كل من يقدم لنا معروفًا، ولو بالكلام.
هل كنت أعني حقًا «شكرًا» بمعناها الذي أفهمه اليوم؟ لا أتذكر.
لكن الشيء الوحيد الذي لا يغادر ذاكرتي هو كلمة واحدة قالها لي الطبيب آنذاك… كلمة واحدة، بسيطة، غيرتني… نعم، غيّرتني. أو على الأقل، غيرت مظهري… وطريقة رؤيتي لجمال العالم… لأكثر من خمسين عامًا.
كان ذلك في منتصف عام 1973…
آه يا دكتور، لو أنك تراني اليوم، في صيف 2025، وأنا ألتقط صورة سيلفي، وعيناي تشرقان بصفاء… ليت هذا الجمال كان يُرى ليُعشق في أيام شبابي.
ولكنك كنت السبب، يا دكتور، في أن يظل سحر عينيَّ محجوبًا، فلا يراه العاشقون إلا من وراء حجاب.
تلك الكلمات البسيطة من الطبيب حملت وزن تجربة لم أتوقع أن أعيش أثرها خمسين عامًا كاملة… كلمات صنعت مني ما أنا عليه اليوم، وجعلت عينيَّ تتأمل العالم بطريقة مختلفة، كما لو أن الضوء الذي لم يُرَ في صغري أصبح الآن نورًا داخليًا أضيء به حياتي.
همسة المريض:
لم أكره النظارة… أنا فقط كرهتُ أن يُقال لي «ستموت بها».
أطباؤنا الأعزاء: الكلمات الصغيرة قد تصنع جروحًا كبيرة في قلب الطفل؛ فاحذروا أن تظلّ في ذاكرته إلى الأبد.