للكاتب الدكتور: هاني آل غزوي
في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها قطاع التعليم في المملكة العربية السعودية، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في كثير من الممارسات التربوية التقليدية، وعلى رأسها قضية الغياب المدرسي. فبينما تسعى وزارة التعليم إلى بناء منظومة تعليمية متكاملة تدعم التميز والابتكار، لا تزال بعض المدارس تواجه تحديات حقيقية في الحفاظ على انتظام حضور الطلاب، خاصة في المراحل المتوسطة والثانوية.
الغياب المدرسي ليس مجرد مؤشر رقمي يُسجّل في دفاتر الحضور والانصراف، بل هو انعكاس مباشر لمدى ارتباط الطالب بالبيئة التعليمية، وشعوره بالانتماء، وتحفيزه الذاتي للمشاركة. وفي كثير من الحالات، لا يكون الغياب ناتجًا عن إهمال أو تهاون، بل عن شعور بالملل، أو فقدان الدافعية، أو عدم وجود ما يثير اهتمام الطالب داخل الصف الدراسي.
من العقوبة إلى التحفيز:
تغيير زاوية النظر
اعتادت بعض المدارس التعامل مع الغياب من منظور عقابي، حيث تُفرض الإنذارات، وتُخصم الدرجات، وتُرفع التقارير، دون محاولة لفهم الأسباب الحقيقية وراء التغيب. هذا النهج، وإن كان يهدف إلى ضبط السلوك، إلا أنه غالبًا ما يؤدي إلى نتائج عكسية، ويزيد من عزلة الطالب عن المدرسة.
في المقابل، تشير التجارب التربوية الحديثة إلى أن التحفيز الإيجابي، وإعادة تصميم الخطط الدراسية لتكون أكثر مرونة وتفاعلًا، يمكن أن يكون له أثر بالغ في تقليل الغياب، وتعزيز الحضور الطوعي للطلاب.
عناصر الخطة الدراسية المحفزة:
إن بناء خطة دراسية محفزة لا يعني التخلي عن الانضباط أو المعايير الأكاديمية، بل يعني تقديم تجربة تعليمية أكثر إنسانية، تراعي احتياجات الطالب النفسية والمعرفية. ومن أبرز عناصر هذه الخطة:
- مرونة المحتوى: ربط الدروس بالحياة اليومية، وتقديم أمثلة واقعية، يجعل الطالب يشعر أن ما يتعلمه له قيمة خارج جدران المدرسة.
- تنويع أساليب التدريس: إدخال التعلم التعاوني، والمشاريع الصفية، والمسابقات، واستخدام الوسائط المتعددة، يحوّل الصف إلى مساحة تفاعلية نابضة بالحياة.
- نظام تحفيزي إيجابي: مثل نقاط المشاركة، وشهادات التميز، وامتيازات بسيطة (كقيادة نشاط أو اختيار موضوع)، تعزز الشعور بالإنجاز والانتماء.
- دعم نفسي وسلوكي: عبر المرشد الطلابي، يمكن متابعة حالات الغياب الفردية، وفهم دوافعها، وتقديم الدعم المناسب، بدلًا من الاكتفاء بالتقارير الرسمية.
التعليم السعودي في ظل رؤية 2030:
تضع رؤية المملكة 2030 التعليم في قلب التحول الوطني، وتسعى إلى بناء جيل قادر على المنافسة عالميًا، ومتمكن من أدوات العصر. ومن هذا المنطلق، فإن تبني نماذج تعليمية مرنة وتفاعلية لا يُعد ترفًا تربويًا، بل ضرورة استراتيجية.
لقد بدأت وزارة التعليم بالفعل خطوات جادة نحو تطوير المناهج، وتدريب المعلمين، وتفعيل التقنية في الصفوف الدراسية. إلا أن النجاح الحقيقي يكمن في قدرة المدارس على ترجمة هذه السياسات إلى ممارسات يومية ملموسة، يشعر بها الطالب، ويتفاعل معها.
المدرسة كبيئة جاذبة لا طاردة :
إن المدرسة ليست مجرد مكان لتلقّي المعلومات، بل هي فضاء لبناء الشخصية، وتعزيز القيم، وصقل المهارات. وكلما كانت الخطة الدراسية مرنة، والأسلوب التعليمي تفاعليًا، كلما زاد ارتباط الطالب بالمدرسة، وقلّت دوافع الغياب.
إن معالجة الغياب المدرسي لا تبدأ من دفتر الحضور، بل من تصميم تجربة تعليمية تجعل الطالب يقول: "أنا أريد أن أكون هنا". وهذا هو جوهر التعليم الذي نطمح إليه في المملكة، تعليم يربط بين العقل والقلب، وبين المعرفة والانتماء.