النخلة .. عمتنا التي أرضعتنا الكرامة

للكاتب الأستاذ : عبدالله أبو رشيد 

بين سموم القيظ ولهيب الأيام اللاهبة، حين يتثاقل الهواء ويغدو التنفس أمنية، تعيش الأرض لحظة امتحان، وتدخل النخلة مرحلة احتراق صامت... لا لتذبل، بل لتثمر. إنه القيظ... فصل الصبر والاختبار، حيث تنكمش الأرواح في الظلال، وتنتظر العيون بشوق أول بشارة، أول ثمرة ناعمة تُعلن أن الصبر لم يكن عبدا. في هذا التوقيت من العام، تتأرجح النفوس بين الضيق واللهفة، بين لهيب القيظ الذي يضرب بوجهه اليابس، وبين وعد خفي تتوارى خلفه النخلة، تُخفي في قلبها ما نترقبه بلهفة: بواكير الرطب.

ذاك الرطب، الذي لا يجيء إلا بعد عذابات الصيف، لا يجيء إلا وقد مر من النار، ليكون مذاقه شبيها بفرحة تولد من رحم المعاناة. وكان الأرض نفسها، تتطهر بحر القيظ، ثم تهدي أولادها تمرا حلوا كبشارة الفرح بعد طول انتظار، ونديا كدمعة رضا. بهذا التوقيت، لا تحدث أنفسنا عن الثمر فقط بل عن قيمة النخلة ذاتها، تلك التي تثبت جذورها في الأرض، وتمنح دون أن تئن، وتصابر كي لا نجاع. في زمن تتغير فيه الملامح وتتهاوى التفاصيل، تبقى النخلة شامخة، كأنها تتحدى النسيان، وتذكرنا بمن نكون ليست مجرد شجرة، بل هي الأم الثانية، والظل الأبدي، والرائحة الأولى التي تعلق في الذاكرة.

من رحم هذه العلاقة الأزلية بين الإنسان والنخلة، ولدت أهازيج ما تزال تهمس بها الأمهات لأطفالهن، منها تلك التي لا تخطئها أذن ولا يخبو صداها:
يانخلة في الحوش .. ويلي
ماحلى رطبها ... يايمه

كلمات بسيطة، لكنها تحمل في طياتها شيفرة حياة، ومشروع بقاء . إنها ليست تهويدة فحسب، بل رسالة مشفرة في وجدان أمهاتنا، تخبر أطفالهن أن النخلة لا تقل شأنا عن حليب الأم، فكلاهما غذاء..... وكلاهما وطن.

النخلة ... من البيت إلى الروح
ما من بيت في القرى والواحات إلا وله قصة مع نخلة. من لا يملك بستانا، صنع في فناء بيته "دالية"، مساحة صغيرة تزرع فيها نخلة وبعض الخضروات، وكأنها قلب أخضر في جسد من طين. ومن عجز، اقتنى نخلة في بستان الغير، في عقد محبة لا تجارة، يحصد "راتبها" في الموسم، وغالبا ما كان الرطب يهدى إليه ومعه تين أو ليمون على عادة الكرم المتوارث.
النخلة كانت جزءًا من المعمار من المطبخ من القصيدة، وحتى من الدعاء. نغني لها، نأكل منها، ندفاً بعشقها، ونبني بها السقف الذي نستظل تحته. هي ليست شجرة ... هي ذاكرة.
سموم القيظ... نار تثمر ذهبا
جاها سموم القيض .. ويلي
ويبس عسقها .. يايمه

وهنا تتجلى الحكمة النخلة لا تثمر إلا بعد صبر، ولا يشتد عودها إلا حين تتعرض لحر السموم. كما الإنسان، تمر من لهب التجربة، لتنتج رطبا شهيا، وتمراً طيبا، وعسقًا يُستخدم وقودًا في الطبخ ودفنا في الشتاء. حتى يبسها لا يُرمى... فكيف بالناس أن ينسوها حية؟!

النخلة في الوجدان الشعبي أكثر من تراث
حينما وصفها الأجداد بـ"عمتنا"، لم يكن توصيفًا عابرا . النخلة كانت كريمة لا تشكو، صابرة لا تقهر ، مانحة دون منة في أفراحنا كانت زينتنا، في مأتمنا كانت سواتر قبورنا، وفي أعيادنا كانت حلوانا. هي رفيقة الإنسان في كل مراحل حياته. لكن اليوم، النخلة تصرخ بصمت... أمراض تفتك بها، وجرافات تقتلعها، وأيدي تنساها أو تهملها. وكأنما قطعت أواصر القرابة بيننا وبين عمتنا الأولى.

دعوة للحياة لا للحنين
هذا المقال ليس مجرد بكاء على الأطلال، بل دعوة صادقة لإعادة النخلة إلى صدارة الوعي الشعبي والاهتمام البيئي والاقتصادي. لنعد زرعها في بيوتنا وحدائقنا ومدارسنا. لنحي أهازيجها في أفواه الأطفال، ولتعود "الدالية" مشروعًا منزليًا يعيدنا إلى بساطة فقدناها. حمى الله النخلة من جحودنا، ومن عبث العابرين. ورد السلام على كل نخلة ما زالت تنتظر من يقول لها: "يايمه..."
النخلة .. عمتنا التي أرضعتنا الكرامة
آراء ومقالات