بقلم الأستاذ / عبدالله علي أبو رشيد
لم أدرك حقيقة المحبة التي احتضنت طفولتنا إلا عندما كبرتُ، وتزوجت، ورُزقتُ بالأبناء. عندها فقط اكتشفت الوجه الآخر للحياة، ذلك الوجه الذي لا تراه العيون الصغيرة، ولا تفهمه القلوب التي لم تُختبر بعد.
نشأنا في بيت يجتمع فيه اختلاف الطبع وحدّة المزاج وصخب الأيام، ومع ذلك لم نشهد يومًا أن خرجت والدتي غاضبة من عتبة منزلها، ولا سمعنا والدي ينطق بكلمة تمسّ كرامتها أو تُوحي بالرحيل. كانت خلافاتهما صاخبة أحيانًا، لكنها لم تعرف القسوة التي تُطيح بالبيوت.
كانت والدتي، التي لا ملاذ لها سوى بيتها، ترفض كلما عرض عليها أحدنا الإقامة لديه. وكأن شيئًا خفيًا يشدّها إلى مكانها… إلى رجلٍ قد يختلف معها، لكنه لم يتخلّ عنها. ومع السنوات فهمنا أن المودة والرحمة بينهما لم تكن في الكلمات اللطيفة، بل في القدرة على البقاء، وفي العودة بعد كل خلاف، وفي الصبر الذي يحفظ كرامة الآخر دون ضجيج.
ثم جاءت لحظات المرض، كاشفةً ما خفي من مشاعر.
حين دخلت والدتي المستشفى، جلس والدي حزينًا يرفض زيارتها، قائلاً:
“لم أرها يومًا إلا قوية… ولا أستطيع أن أراها منكسرة على فراش المرض.”
وغلبته دموعٌ أخفاها العمر طويلًا.
وبعد سنوات، تكرّر المشهد حين مرض والدي. رفضت والدتي زيارته للسبب ذاته، لكنها كانت تطهو له يوميًا ما يحب، وتصرّ على أن نحمله إليه. كان ذلك فعل حبّ لا يحتاج إلى إعلان.
عندها أدركنا أنّ بينهما حبًا من النوع العميق، حبًّا لا يطلب الظهور، ولا يتزيّن بالعاطفة اللفظية، بل يعيش في الخوف والدعاء والرغبة في حماية صورة الآخر من الضعف. حبٌ يشبه جذور الشجر؛ لا تُرى، لكنها هي التي تُبقي الشجرة واقفة.
ومع مرور الزمن، وقف أحد الأبناء يقول:
“إن ما بلغناه من تعليمٍ رفيع، وما وصلنا إليه من مراتب علمية ومهنية نفتخر بها، لم يكن يومًا ثمرة ظروف ميسرة، بل كان حصيلة والدين اختلفا على التفاصيل، واتفقا على أن نكون أسرة متعلمة قادرة على مواجهة الحياة.”
لقد زرعا فينا معنى التحدّي… لا معنى التشتّت.
علّمونا أن الخلاف لا يهدم البيوت إذا صانت القلوب نواياها، وأن العواصف لا تقتلع أبناءً تربّوا على الثبات. أهدونا قيمًا لا يصدأ أثرها: قيمة العلم، وقيمة الصبر، وقيمة المضيّ في الحياة دون أن تنكسر الروح.
وهكذا، بفضل اختلافهما الذي لم يُفسد المودة، واتفاقهما الذي لم يتغير على مستقبل أبنائهما، نهض جيلٌ كامل ليحمل راية العلم والعمل، ويثبت أن البيوت لا تبقى بقلة الخلاف، بل بقدرة أصحابها على النجاة منه.
هذا هو الميراث الحقيقي الذي تركاه…
ميراث لا يُباع، ولا يفنى، ولا يورَّث إلا بالقيم.
وكم من بيتٍ بدا مضطربًا… لكنه في العمق كان مدرسةً تُنشئ أجيالًا لا تنكسر.