الشيخ علي .. الدكتوراه وملامحُ ثلاثة

سعدتُ هذا اليوم الاثنين بالتواصل مع الأستاذ والأخ والصديق سماحة الشيخ علي آل موسى الذي قدَّم هذا الصباح رسالته المعنونة بـ(المناويل العرفانية لاستعارة الحب في أدب جبران خليل جبران) مقدَّمة كمتطلبٍ أخير لنيل درجة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة الملك فيصل بالأحساء، وبالرغم من عجزي عن الحضور - ولو عبر الأثير -؛ لظروف عملي ولضعف الترتيبات التقنية من الجهة المنظِّمة، إلا أنه بشهادة من حضروا من الأصدقاء، كان - كما عهدناه - في الجلسة التي امتدت لما يقرب من أربع ساعات رائعَ الأداء، بديع العرض، حاضر الجواب، نابِه الفِكرة، وانتهتْ المناقشةُ بإجازة بحثه، وأصبح فعليًا (الشيخ الدكتور) وما بقيتْ إلا إجراءات فنية متعارفة في السياق الأكاديمي ليستلم وثيقة التخرّج الرسمية.

ينتمي الشيخ أبو حسن لفئة من علماء الدين الذين يحلو لكثيرين تسميتهم بـ(المشايخ المثقفون) والعلامةُ الفارقة لهؤلاءِ بين أقرانهم هو الجمع المتناغِم بين التكوين الحوزوي الرصين الذي يشتمل على معرفة وازِنةٍ بعلوم التراث ومسالكه، والاهتمام بالمنجز الثقافي والأكاديمي للعقل الإنساني شرقًا وغربًا. وعلى عكس غيرهم مِن كثرةٍ كاثِرة قد ترى في ذلك إضاعةً للبوصلة والوقت أو اشتباهًا في ترتيب الأولويات، يرى الشيخ وأمثاله هذا التوازن والموازنة، حاجةً حضارية بل ضرورةً مُلحة لمواكبة العصر وفهم مفاتيحه، لهم في تأصيلهم الديني لهكذا رؤيةٍ عدةُ آثارٍ كـ"العَالِمُ بِزَمَانِهِ لا تَهْجِمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ" وغيره، ولعل الشيخ أضحى من الأرقام النادرة على مستوى المنطقة الشرقية من بلادِنا ممن وُفِّق للتوليف بين المسارَين بإتقانٍ وحِرَفيّة مشهودة فرقى الآن هذا المرقى (الدكتوراه) على أصوله المتعارفة عند أهله؛ لينضم إلى قلة قليلة ممن سبقوه زمنًا كان أبرزهم اسمًا ومُنجَزًا العلّامة الراحل الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي (ت 1434هـ).

ثلاثةُ ملامح علمية لمستُها عند سماحته وعشتُها معه مما أراه حقًا يحتاج إلى تعميم وتوسيع بين عموم المشتغلين بالشأن الفكري والمعرفي على اختلاف مشاربهم، دليلي الشخصي عليها اتصالي اللصيق به تثقيفًا وتعليمًا لي أستاذًا ومعلِّمًا ومثقافةً بيننا في جلساتٍ فكرية مركَّزة تمتد لسنوات، أجد الشيخ - ديانةً لا محاباة - مصداقًا لها ومنبِّهًا عليها:

أولًا | الجِدِّية العلمية:
ليست هذه بأول مفاجئة سارةٍ من الشيخ لمجتمعه فقد سبقها قبل أكثر من عقد ونصف نيلُه لدرجة الماجستير عن رسالته (شعرية القلق عند بدر شاكر السياب)، من كلية الآداب بجامعة الملك سعود عام 1429هـ. واليوم في عصر الكبسولات المعرفية والاختزال المُخِل وكثرة المشتِّتات، تحتاج القراءة المركَّزة والكتابة الجادة إلى تضحيةٍ نفسية وجِهادٍ ذهني ليسا بالهَيِّنَيْن وأكثر من السابق بكثير، بل وإلى اعتقادٍ راسخ بأن العلم أولًا كمالٌ إنساني قبل أن يكون مصدرًا لزيادة الدخل المالي أو سببًا في الترقّي المهني أو غيرها. يتذرّع كثيرون معذورينَ بظروف الحياة الضاغطة وبمحدودية الوقت وتقادم العمر في انصرافهم عن الشأن الثقافي والدراسي، لكن أن تبقى سنواتٌ قلائل بينك وبين التقاعد من سلك الوظيفة والتعليم وعندك من الانشغالات الأسرية والاجتماعية ما الله به عليم، وتقرّر وسط ذلك خوض غِمار مشروع مُجهِد كالدكتوراه وتخرج منه بأفضل مغنَم فهو مما يحتاج إلى عزيمة وصبر استثنائيين، وصَدَق قائلٌ في حقه: "إن فضيلته خمسينيٌّ عمرًا وجسدًا لكنه يفوق معظم الشباب في روحه الشابة المتوثِّبة للعلم والتعلم".

ثانيًا | التواضع المعرفي:
بعض الألقاب كـ(الشيخ) و(الدكتور) و(الباحث) وغيرها، فيها إضافة للمرء فيما تعطيه من رصيد اجتماعي واحترام إضافي وسلطة معرفية أمام الآخرين شاء أم أبى، ولكن ثمّت فرق فارق بين مَن يكون بعدها أكثر تواضعًا وشعورًا بمساحات الجهل الشاسعة من نفسه ومَن يتخذها وسيلة لتصدّر المجالس والوجاهة الاجتماعية فحسب، بالنسبة للشيخ وأضرابه من الشغوفين منذ الصِبا بالمطالعة والبحث والكتاب في هكذا تجارب إضافةُ لهم ولو في بعض الجوانب، لكنها لمن يعرفه إثباتٌ وإبرازٌ لقدرةٍ بحثية موجودةٍ وكامنةٍ في مرحلةٍ سابقةٍ ثبوتًا، وحتمًا، ينظر الصنف الذي ينتمي إليه الشيخ للدرجات العلمية على نحو الطريقية لا الموضوعية، وكوسيلة لخدمة المجتمع والإنسان ونفعهما لا هدفًا ذا قيمة ذاتية في حد نفسه، فمن عرفوا ذلك زانوها ولم تزنهم، وجعلوا لها قدرًا ولم تجعل لهم، ورحم الله مفكِّر الأمة الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ت 1400هـ) الذي كان يكرر على تلامذتِه - وفيهم فقهاءُ كِبار: (الوجود الحقيقي لا يحتاج إلى ألقاب).

ثالثًا | الانفتاح الفكري:
يتعلّم المصاحِب للشيخ علي ويسمع ويرى أنه مع قناعاته الدينية والفكرية الخاصة لا يعيش عقدةً من المختلف معه، بل يرى في الحوار معه أو القراءة له فرصةً لاختبار مدى صحة أفكاره السابقة وإعادة النظر فيها، حيث يدرك الإنسان الحصيف - ولو بعد حين - أن الانغلاق وليد التشدد، والتسامح ابن الانفتاح ، لكن ما يشتبه على بعضٍ ظنُّهم أن المنفتح إنسانٌ عديم اللون أو هلامي الفِكر مجانِبين في ذلك الصواب دون شعور، أن تكون منفتحًا يعني أن تكون مدرِكًا بصورة واعية أن البحث عن الحقيقة في أي موضوع يستلزم معرفيًا قراءة ومتابعة وجهات نظرٍ متباينة فيه لأنك بدون ذات تمتلك صورةً مجتزأةً فقط عما تبحث عنه، وأن تكون منفتحًا يعني أن تكون موضوعيًا - وليس بالضرورة محايدًا - في تقويم ونقد ما تقرأ بل أن تقرأ بالأصل والذات لكي تفهم وتستوعب ثم تنظر لا أن تقرأ مع إضمار نية مسبقة بالرد، وألا تعيش الوحشة من القبول بصوابٍ يُستفاد منه خطَّه قلمُ مفكِّرٍ لا تتفق مع توجهه، وفي المقابل تقف متحفِّظًا من رأي ضعيف طرحه آخرُ قريبُ الفِكر منك، وأخيرًا ألا تعيش الرفض الأعمى لشيء لمجرد كونه غريبًا عليك أو مخالفًا لما اعتدتَ سماعه بل قد ترى وسط رُكامِ اشتباهاتٍ ومشاغباتٍ لكاتبٍ ما أسئلة وجيهة تستحق الوقوف الجاد. 

ختامًا أقول، الدكتوراه نهايةٌ لمشوار طويل ومضنٍ ومحطةٌ لشعور كبير بالرضا وتحقيق الذات، ولكنها بداية لأشياء أكبر وأطول، ولا زال المشوار طويلًا، وفي عالم المعرفة والعلم وراء كل مقصدٍ مقصدٌ آخر أكبر منه والطريق لا ينتهي، وكما جاء في الحديث: "لَا يَزَالُ الْمَرْءُ عَالِمًا مَا طَلَبَ الْعِلْمَ، فَإِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ؛ فَقَدْ جَهِلَ".

أهنِّئ الشيخ علي بهذا الإنجاز المتميِّز، ونهنِّئ أنفسنا به علمًا وخُلُقًا وسماحةً، ونتطلع إلى المزيد من عطاءاته وإبداعاته وإسهاماته الكتابية والمنبرية والعملية، ونرجو لهكذا إنجازات منه ومن أمثاله أن تستحث الهِمم لما فيه خير المجتمع والإنسان والنهوض به.

محمد علي آل بطي - العوامية
18 ذو القعدة 1445هـ
27 مايو 2024م
الشيخ علي .. الدكتوراه وملامحُ ثلاثة
آراء ومقالات