الشتاء قديمًا: أقسى بردٍ.. وأدفأ قلوب

بقلم الأستاذ/
عبدالله بورشيد
 
حين كان الشتاء يزأر بأمطاره ورياحه العاتية، لم يكن هناك مكيفٌ دافئ ولا بطانيات كهربائية، ولا نوافذ محكمة الإغلاق تردّ عن الأجساد رجفة البرد. كانت البيوت متواضعة، من العشيش والصفيح، تعصف بها الرياح فتئن جدرانها، لكن رغم ذلك، كان الدفء حاضرًا، يتغلغل في الأرواح قبل الأجساد، في تفاصيل الحياة اليومية التي صنعت من الفقر غنى، ومن قسوة المناخ حنانًا.

الدفء لم يكن نارًا.. كان احتواءً
ليست النار وحدها من كانت تهب الدفء، بل كان في الأمهات والجدات، في التفاف العائلة حول “سجرة الضو” أو “التنور”، في تلك الحلقة التي تشبه مجالس الذكر، لكن على سبيل نجاة. لم تكن مجرد تجمعٍ حول وهج اللهب، بل كانت حياةً تُعاد صياغتها كل ليلة، بين سيرة الصالحين، والصلاة على محمد وآله، وبين حكايات تُروى فتغزل الخيال، تارةً ترهب الصغار لتغرس فيهم الحذر، وتارةً ترغّبهم بالحكمة والقيم، فيتوهج العقل كما يتوهج الجسد بحرارة النار.

وفي وسط هذه الأجواء، كان غوري الحليب بالزنجبيل يغلي، يتصاعد بخاره فيلفّ المكان برائحة دافئة، وكأنها امتداد لحضن الأم الذي لا يفتر. الجميع متحلقون، بعضهم مستندٌ إلى كتف الآخر، الأعين نصف مغلقة من النعاس، لكن الأذن مصغية، والروح غارقة في هذا الدفء الذي لا يشبه أي دفء آخر.

قرار النوم.. ونشيد الختام
ما إن يصل الليل إلى أوجه، حتى يأتي القرار الحاسم من الجد أو الأب: “هيا إلى النوم”. حينها، تتصدر الجدة المشهد بصوتها الذي يحمل في نبرته حنان القرون الماضية، فتهزّ أركان الدفء بإهزوجتها:
“تحموا يا أولادي وباچر حطبوا
أمكم ضُبيعة وأبوكم شايبُ”
كأنها تقول: هذه الليلة استنفدنا دفئنا، وغدًا عليكم إعادة تعبئته، فالحياة لا تنتظر الكسالى. الحطب كان من مخلفات النخلة: الكرب، العسق، التليل، الطرف، والسجين، هدايا الطبيعة لمن يجيد استثمارها. لم يكن أحد يشتكي من التعب، بل كان الكل يرى في ذلك ضرورةً لاستمرار الدفء، واستمرار الحياة.

الغذاء.. علمٌ بالفطرة
لم يكن الطعام مجرد وسيلةٍ لسد الجوع، بل كان علمًا يُطبَّق دون كتب، فالأمهات كنّ يعرفن بالفطرة أن الشتاء يحتاج إلى طعامٍ دسم، يمنح الجسم قوةً لتحمل البرد، ويحفز على الحركة حتى لا تتحول الدهون إلى خمول.

 • الإفطار: بداية اليوم كانت ثقيلةً بما يكفي لإطلاق الطاقة المخزنة في الأجساد، خبيص، عصيد، إمبصل، إمحلة، كلها وجبات غنية بالسعرات، ترفع حرارة الجسد قبل أن ينطلق للعمل واللعب.
 • الغداء: وليمة الشتاء الحقيقية، مرقٌ بلحمٍ أو سمك، وأحيانًا مرق “دسم”، أي مصنوع من كرش الذبيحة، التي كانت تُطهى بعد تنظيفها جيدًا، فتتحول إلى طبقٍ مشبعٍ بالدهون، يمدّ الجسم بطاقة تدوم لساعات.
 • السناك (الزوادة): مع اقتراب المغرب، وبعد يومٍ استنفد الصغار فيه كل طاقتهم بين العمل واللعب، كان العلاج من البرد يبدأ بغلي الماء لغمس الأرجل المتشققة، بينما تُقدَّم وجبةٌ خفيفة، مثل حلاوة الساهون – مزيجٌ من السمن والسكر والمكسرات – أو صامولة ممسوحة بدهن وسكر، أو حتى قرص خبازٍ مع طماطم رامسي، وكأنها لمسة شفقةٍ على بطونٍ لم تهدأ منذ الفجر.
 • العشاء: وجبةٌ خفيفة، لكن تكمل ما نقص من طاقة اليوم، خبز وحليب، أو صمول، أو شريك، وأحيانًا بقايا الغداء، لكنه لا يكتمل دون اللمسات الأخيرة: الجوز، الكستناء، الكوفرة، البطاطا المشوية، والهندال، كلها كانت “بطاريات” شتائية، تُشحن بها الأجساد لمقاومة قسوة الليل.

مدرسة بلا شهادات.. لكنها صنعت رجالًا
لم يكن أهلنا مجرد فقراء يتدبرون معيشتهم، بل كانوا أساتذة في علم البقاء، خبراء في التربية، يعلموننا كيف نعيش دون أن يُلقوا علينا دروسًا، وكيف نواجه قسوة الطبيعة دون أن نشتكي. منحونا الأمان العاطفي دون ترف، وأشبعونا بالغذاء المناسب دون إسراف، علمونا أن العمل جزءٌ من الحياة، وأن الدفء لا يأتي بالاعتماد على المدافئ، بل بالسعي، وبالاحتواء، وبذلك التكاتف الذي صنع من الفقر غنى، ومن الشتاء موسمًا لا نذكره إلا بحنينٍ يشبه حرارة التنور في تلك الليالي الباردة.
رحم الله الماضين.. وحفظ الله الباقين..
 
الشتاء قديمًا: أقسى بردٍ.. وأدفأ قلوب
آراء ومقالات