الشيخ سمير آل ربح
مقدمة
فهم معاني القرآن الكريم واجب على كل مسلم؛ إذ إنه طريق للاعتقاد الصحيح من جهة، وطريق للعمل به من جهة أخرى؛ إذ كيف يمكن أن نعمل به ونحن لم نفهمه؟! إن العلم طريق للعمل؛ فمن عَلِمَ عَمِلَ. ومن هنا فإن علينا واجب الاطلاع على تفسيرٍ للقرآن، ولنبدأ بتفسير سهل، ومن التفاسير المفيدة هنا (تقريب القرآن إلى الأذهان) لسماحة المرجع السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) فهو تفسير لغوي من السهل الممتنع يقع في خمسة مجلدات، يعطيك معاني الآيات مباشرة، من دون أن يدخل في أبحاث طويلة كما في بعض التفاسير مثل (الميزان) للسيد محمد حسين الطباطبائي (رحمه الله). كما أن علينا التدبُّر في آياته:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلقُرءَانَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱختِلافًا كَثِيرًا} [سورة النساء:82].
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلقُرءَانَ أَم عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقفَالُهَا} [سورة محمد:24].
أسئلة البحث
ونحن في هذه السطور نتناول بحثًا قرآنيًا ضمن أدوات لغوية، نحاول فيه أن نسبر أغوار بعض الآيات القرآنية منطلقين من الآية الكريمة: {ذَلِكَ الكِتابُ لا ريْبَ فيهِ} [سورة البقرة:2].
ومنها نستعرض الآيات التي تناولت (الرَّيب) وما يتعلق به من مفاهيم.
ما معنى الرَّيب؟
ما الفرق بينه وبين الشك؟
ما الآيات التي تناولت (الرَّيب)؟ وما سياقاتها؟
وفي حكم الشك/ الرَّيب، الظن في الأصل. وقد يلحق باليقين كما إذا كان ظنًّا غالبًا يورث اطمئنانًا ويكون في حكم اليقين كالبينة والأصول الجارية في بعض المواضع كيد المسلم وسوق المسلمين.
والحديث عن الظن وعن اليقين له موضع آخر لا يتسع المجال لاستيعابه في هذه السطور.
معنى الرَّيب
انطلاقًا من آية سورة البقرة، وبالتأمل في مادة (ر ي ب)، نجد أن معنى الرَّيب هو الشك. أصل الرَّيب هو القلق واضطراب النفس. وريبُ الزمانِ وريبُ المنون نوائِبُ ذلك، قال الله تعالى: {أَم يَقُولُونَ شَاعِر نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيبَ ٱلمَنُونِ} [سورة الطور:30].
ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الرَّيب فأصبح حقيقة عرفية. يقال: رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعلِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعدٍ، وكذلك أرابه. والهمزة هنا لم تَزده تعدية مثل: لحق، وألحق، كلاهما فعلٌ متعدٍ.
وفي الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله): "دَعْ مَا يُريبك إلى مَا لا يُريبك" [وسائل الشيعة، الحر العاملي، 27/ 173]. أي دع الفعل الذي يقرِّبك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح. ومن أمثلته الذبيحة (الدجاج) التي تشك في حليته، هل ذُكِّي (ذُبح على الطريقة الشرعية) أم لا؟ مع أن الأصل في سوق المسلمين هو الحلية، إلا أن هناك توجيهًا بأن تراعي الاحتياط وتترك المشكوك. قال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد: "أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت". [وسائل الشيعة، الحر العاملي، 27/ 167].
واللافت بأن مفردة (ريب) جاءت في أكثر الآيات منفية بـ (لا)، ماعدا ثلاث آيات هي: {وَإِن كُنتُم فِي رَيب مِّمَّا نَزَّلنَا عَلَىٰ عَبدِنَا فَأتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثلِهِۦ} [سورة البقرة:23]. {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِّنَ ٱلبَعثِ} [سورة الحج:5]. {أَم يَقُولُونَ شَاعِر نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيبَ ٱلمَنُونِ} [سورة الطور:30].
الفرق بين الرَّيب والشَّك
الشَّكُّ سبب الرَّيب، فإنه يَشُكُّ أولًا فيوقعُهُ شَكُّهُ في الرَّيب؛ فالشَّكُّ مبدأُ الرَّيب، كما أن العِلمَ مَبدأُ اليقينِ. وقد اجتمع الشك مع الريب في 6 آيات من كتاب الله. قال تعالى: {ولقد آتينَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ولَولَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَينهم وَإِنَّهُم لَفِي شَكٍّ مِنه مُريبٍ} [سورة فصلت:45].
يُنظر: [سورة هود: 62، و110، وسورة إبراهيم: 9، وسورة سبأ: 54، وسورة الشورى: 14].
والفرق بينهما من الناحية اللفظية يظهر في الاستعمالات الآتية:
الأول: يقال: شكٌّ مريبٌ، ولا يقال رَيْبٌ مُشَكِّك.
الثاني: أنه يقال: رَابني أمْرُ كذا، ولا يقال شكَّكَني.
الثالث: أنه يقال: رَابَه يَرِيبهُ إذا أزعجَهُ وأقلقَهُ. ولا يأتي في مثل هذا السياق: شكَّ يشكُّ.
والنتيجة أن الرَّيب ضد الطمأنينة واليقين، فهو قلق واضطراب وانزعاج. كما أن الطمأنينة ثبات واستقرار.
[يُنظر: بدائع الفوائد، ابن القيم، 4/ 1489].
والنسبة بين الشك والرَّيب عموم وخصوص من وجه: يجتمعان من جهة، ويفترق كل واحد عن الآخر من جهة أخرى:
جهة الاجتماع: الشك الذي ينتج عنه ريب (قلق النفس).
جهة افتراق الشك عن الرَّيب، إذا شك من دون أن يرتاب.
جهة افتراق الرَّيب عن الشك، إذا ارتاب (اضطربت نفسه) من جهة أخرى غير الشك، كالخوف والوساوس والهلاوس...، وما إلى ذلك.
مواضع الرَّيب في القرآن الكريم
تكرَّرت مفردة (ريب) 24 مرة. منها ما جاء نكرةً (ريب) 16 مرة. وجاءت مُعرَّفة بالإضافة (ريب المنون) مرة واحدة، وبصيغة اسم الفاعل (مُريب) 7 مرات. ولم تأتِ مُعرَّفة بـ (ال). هذا يعني أن لهذه المفردة حضور لافت في القرآن الكريم، وقد وردت في سياقات ثلاثة:
السياق الأول: نفي الرَّيب عن الكتاب (القرآن الكريم)، وجاء في سياق أربع آيات اثنان منها في سورة البقرة الآية الثانية والآية الثالثة والعشرين، والآية السابعة والثلاثين من سورة يونس، والثانية من سورة السجدة على التوالي:
{ذَلِكَ الكِتابُ لا ريْبَ فيهِ}.
{وَإِنْ كنتم في رَيبٍ ممَّا نزَّلنا على عبدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ}.
{وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون اللهِ ولكنْ تصديقَ الَّذي بين يديه وتفصيل الكتابِ لا ريبَ فيه مِن ربِّ العالمينَ}.
{تنزيلُ الكتابِ لا ريب فيه من رب العالمينَ}.
ثلاث من هذه الآيات جاءت بهذا التركيب: (لا ريْبَ فيهِ).
نُفِيَ الرَّيب عن القرآن الكريم. بإرجاع الضمير (الهاء) عليه. و(لا) نافية للجنس على سبيل التنصيص، وليس نفي الفرد دون الجنس، وهو أبلغ في النفي. ولو أراد نفي الفرد لقال: لا ريبٌ. فأنت حين تقول: لا رجلَ في الدار. تنفي مطلق الرجال، فلا أحد مِنَ الرجال في الدار، بخلاف ما إذا قلت: لا رجلٌ في الدار، فإنك تنفي الرجل الواحد فقط، ويحتمل أن يكون هناك أكثر من رجل، فالنفي في هذا المثال نفي للفرد لا للجنس.
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى (لا ريْبَ فيهِ) أي ليس فيه ما يوجب ارتيابًا في صحته، أي ليس فيه اضطراب، فيكون الرَّيب هنا مجازًا في سببه. [التحرير والتنوير، ابن عاشور].
السياق الثاني: نفي الرَّيب عن يوم البعث. والآيات كثيرة في ذلك، بلغت إحدى عشرة آية، نكتفي بعرض ثلاثًا منها:
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوم لَّا رَيبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخلِفُ ٱلمِيعَادَ ٩} [سورة آل عمران:9].
{الله لا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجمَعَنَّكُم إِلَىٰ يَومِ ٱلقِيَٰمَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَمَن أَصدَقُ مِنَ الله حَدِيثًا} [سورة النساء:87].
{وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَة لَّا رَيبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبعَثُ مَن فِي ٱلقُبُورِ } [سورة الحج:7].
وبالعودة إلى جملة (لا ريبَ فيها)، إما هي جملة خبرية أي ليس فيه ما يُوجب الشك والارتياب، فإن الإنسان إذا تأمل وتفكَّر بعقله فإنه يُدرك بأن هناك حياة بعد هذه الحياة، تحقيقًا للعدل الإلهي. أو تكون الجملة إنشائية، وإن جاءت في صورة الخبرية، ويكون المعنى حينئذٍ: يجب عليكم ألَّا ترتابوا في الكتاب، ويجب عليكم ألَّا ترتابوا في يوم البعث. ومن هنا فإن الإيمان بالكتاب وبيوم الجزاء من أصول العقيدة.
السياق الثالث: إضافة الريب إلى (المنون)، في آية واحدة:
{أَمۡ يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ ٣٠} [سورة الطور:30].
{أَمْ يَقُولُونَ} أي بل يقولون {شَاعِرٌ} أي هو شاعر {نَتَرَبَّصُ} أي ننتظر {به ريب المنون} أي الدهر، وهو فعول من المنِّ بمعنى القطع؛ لأنه يقطع الأعمار وغيرها، ومنه حبل منين أي مقطوع. والريب مصدر رابه إذا أقلقه. أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس، وعبَّر عنها بالمصدر مبالغة، ويجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل، والمراد بنزوله إهلاكه.
عن الضحاك ومجاهد: أن قريشًا اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال بنو عبد الدار: هو شاعر تربصوا به ريب المنون، فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها.
[يُنظر: روح المعاني، الألوسي. التبيان لجامع علوم القرآن، الطوسي. التحرير والتنوير، ابن عاشور].
والحمد لله ربِّ العالمين.