أبو محمد.. أثرٌ بعد رحيل

بقلم / عبدالكريم سعيد آل نمر

أصبحنا هذا اليوم على طقسٍ نادر الجمال…
لكن الأجمل منه كان خبرَ بدء حفر الأرض التي أوقفها الحاجُّ المؤمن أبو محمد لخدمة المؤمنين في بلدته الطيبة العوامية.
هكذا كان الحاجُّ المؤمن عبدالله الشيخ
(أبو محمد)
كنا نسير معًا في السيارة، وفجأة—عند مرورنا بالمقبرة—أوقف الحاج أبو محمد السيارة.
سألته: «لماذا توقفت هنا فجأةً؟»
ابتسم بهدوء، وعيناه تحملان احترامًا صامتًا:
«لكي نتذكّر هؤلاء الموتى، ونقرأ لهم الفاتحة.»
وقفنا لحظة… وكأن الزمن تباطأ، وملأ الصمتُ المكان بكل ما لم تُحكه الكلمات عن الرحمة والسكينة.
كان في ذلك الموقف درسٌ صغير،
لكنه عميق:
أن الرحمة لا تعرف زمانًا، وأن القلب الطيب يتوقّف عند كل ذكرى— لو كانت خلف أسوارٍ صامتة.
يا للعجب… كيف يستمر الخير حتى بعد أن يرحل أصحابه؟
نمضي سنواتٍ بجوار الطيبين، ولا نعرف من نقاء قلوبهم إلا القليل، ثم يكشف الغياب ما أخفاه التواضع، ويُظهر لنا وجوهًا أخرى من أولئك الذين يغادرون بصمتٍ ويتركون نورًا لا ينطفئ.
يا لها من لحظة… حين يشرق الخير من تحت التراب، ويشهد الزمن على أثر رجلٍ رحل ببياض قلبه، ولم نعرف—للأسف—كثيرًا من مزاياه إلا بعد فقده.
يا لها من لحظةٍ تكشف كم نحن بحاجةٍ إلى القلوب الطيبة، وكم أن الفقد يجعلنا نرى مزايا من رحلوا قبل أن ندركها.
لم يكن غنيًّا بما يلفت الأنظار، لكنه كان ثريًّا بما هو أعظم:
بثقافته الهادئة، وتواضعه الكبير، وابتسامته التي تُشعر من يراها أنه أمام إنسانٍ حقيقي، غير مُزيَّف ولا متكلِّف.
ومع ذلك كلّه… لم يكتفِ بالخير الذي يجري على يديه في حياته.
كان يؤمن أن الإنسان الحقيقي هو من يزرع نورًا لا يزول بغيابه، فاشترى أرضًا من ماله الخاص، وأوقفها لخدمة أهل بلدته.
واليوم، بينما يبدأ العمل في الأرض التي أوقفها، يقف العشرات—بل المئات—في مكانه السابق، يقرؤون له الفاتحة، ويشهدون أن الطيبة لا تموت، وأن أثر القلوب البيضاء يستمر بعد الرحيل.
لم يُرِد أن تُذكر باسمه، ولم يسعَ إلى لوحة تُعلَّق على جدار.
كأنه كان يقول:
«إن بقي لي ذكرٌ بعد موتي، فليكن في موضعٍ أنتم أقرب ما تكونون فيه من الله.»
إن كنتم هنا، على هذه الأرض التي أوقفها، أو تمرّون بتلك المقبرة، فتوقّفوا كما وقف هو… واقرؤوا له الفاتحة.
رحمك الله يا أبا محمد
(عبدالله الشيخ محمد الشيخ جعفر آل شيخ جعفر)
وصبّ على قبرك وأرضك شآبيب رحمته،
وجعل قبرك روضةً من رياض الجنة،
وحشرك مع محمد وآل محمد.
همسة:
«قِف كما وقف عند المقبرة… اقرأ الفاتحة لمن رحل… ثم انظر إلى الأرض التي أوقفها للخير بعد موته، لتعرف أن القلوب البيضاء لا تموت، وأن الطيبة تستمر في النور حتى بعد أن يغادر أصحابها.»
أبو محمد.. أثرٌ بعد رحيل
آراء ومقالات