رحيل أم عبدالله… معلّمة القرآن وجارة القلوب

للكاتب الأستاذ: عبدالكريم سعيد آل نمر

رحلتْ في يوم العيد، وكأنها كانت تعرف أنَّ اللهَ يدعو أحبّته في أيام رحمته.
في هذا اليوم، غابتْ عن دنيانا امرأة لم تكن عابرةً في الذاكرة، بل راسخةً في القلوب. امرأة كرّستْ حياتها لتعليم كتاب الله، واتخذت من تعليم الأطفال القرآن الكريم مهنةً وميراثًا، في زمنٍ كانت فيه هذه المهنة تُورَّث كما تُورَّث البركة، قبل أن تندثر وينساها الناس.
امتهنت مهنةً عزيزة اندثرت في زمن السرعة، مهنة تعليم القرآن للأطفال في البيوت. كانت تُعلّمهم الحروف والحركات، وتعلّمهم قبلها الأخلاق والسلوك.
 كانت تُدرّس على الحصير، بلا رتوش ولا تكلّف، لكنها تُخرّج من بين يديها جيلًا من المؤدبين، المحبين للقرآن، الحافظين له حبًا لا تكليفًا.
تُعلّم الأطفال الحروف، وتغرس فيهم النور. تقرأ معهم لا بأصواتهم فقط، بل بقلوبهم. لم تكن دروسها تقتصر على التلاوة، بل كانت دروسًا في الأدب، والنية، والصبر، والتقوى.
كانت أم عبدالله أكثر من جارة. عشنا بجوارها أكثر من عشرة أعوام ، وما عرفنا عنها إلا الخير والكرم والسكينة. 
لم نرَ منها إلا الخير، ولم نسمع منها إلا الكلمة الطيبة. كنا نشعر أن الدنيا ما زالت بخير، ما دام في أحيائنا من يشبه أم عبدالله.
بيتها كان بيت علمٍ وبركة، تنبعث منه تلاوات الأطفال، وأصواتهم الطاهرة يتلعثمون بالآيات، فتصحّح لهم بحنان الأم، وصبر المعلمة، وحكمة المربين.
ابنتي الكبرى وولدي الأكبر كانا من تلاميذها، وما زالا، حتى يومنا هذا، يذكرونها بكل خير، ويمدحونها، ويسألون عنها كلما مرّ ذكرُها، وكأنها لم تكن مجرد “معلمة”، بل كانت جزءًا من طفولتهم، من وجدانهم، من ذكرياتهم النقية.
لقد أحبها تلاميذها بصدقٍ نادر، حبًا لا يُشبه حب التلاميذ في زماننا هذا،
 حيث صارت المعلمة في أعين طلابها اسمًا يُنسى بعد الامتحان.
أما أم عبدالله، فقد بقيت محفورةً في الذاكرة، لأن ما أعطته لم يكن شرحًا… بل حياة، ولم تكن تبحث عن التقدير… بل عن الأجر.
لقد رحلت جسدًا… لكنها بقيت فينا، في أبنائنا، في دعائنا، وفي كل بيتٍ نُطق فيه بالقرآن على يديها.
كم من طفلٍ كبُر، ونسي معلميه… إلا هي. بقيت في القلب، وفي الذاكرة، وفي كل تلاوةٍ صحيحة خاشعة.
نودّعها اليوم في العيد، ولا عيد لنا….
ولا نملك إلا الدعاء.
همسة إلى معلمات اليوم:
كنَّ قدوةً، اجعلنَّ التعليم رسالةً،
 لا وظيفة. ازرعنَّ القيم قبل الدرس، وامنحنَّ أبناءنا من الرحمة والصدق والمحبة ما يجعلهم يذكرونكنَّ، كما ذكرنا اليوم أم عبدالله.
رحمكِ الله يا "أم عبدالله" وصبَّ على قبركِ شآبيب رحمته وجعل قبركِ روضةً من رياض الجنة وحشركِ مع القرآن وأهله
رحيل أم عبدالله… معلّمة القرآن وجارة القلوب
آراء ومقالات